فصل: أمر النيل في هذه السنة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


وأما السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين فإنه أخذ بعد قتله وغسل وكفن بتربته بالقرافة الصغرى بالقرب من سفح المقطم ودفن مملوكه منكوتمر تحت رجليه‏.‏

قتل الملك المنصور لاجين وهو في عشر الخمسين أو جاوزها بقليل وقد تقدم التعريف به في عدة تراجم مما تقدم ونذكر هنا أيضًا من أحواله ما يتضح التعريف به ثانيًا‏.‏

كان لاجين ملكًا شجاعًا مقدامًا عارفًا عاقلًا حشيمًا وقورًا معظمًا في الدول‏.‏

طالت أيامه في نيابة دمشق أيام أستاذه في السعادة وهو الذي أبطل الثلج الذي كان ينقل في البحر من الشام إلى مصر وقال‏:‏ أنا كنت نائب الشام وأعلم ما يقاسي الناس في وسقه من المشقة وكان - رحمه الله - تام القامة أشقر في لحيته طول يسير وخفة ووجه رقيق معرق وعليه هيبة ووقار وفي قده رشاقة وكان ذكيًا نبيهًا شجاعًا حذورًا ولما قتل الملك الأشرف خليل بن قلاوون هرب هو وقراسنقر فإنهما كانا أعانا الأمير بيدرا على قتله حسب ما ذكرناه ترجمة الملك الأشرف المذكور بل كان لاجين هذا هو الذي تمم قتله ولما هرب جاء هو وقراسنقر إلى جامع أحمد بن طولون وطلعا إلى المئذنة واستترا فيها وقال لاجين‏:‏ لئن نجانا الله من هذه الشدة وصرت شيئًا عمرت هذا الجامع‏.‏

قلت‏:‏ وكذا فعل رحمه الله تعالى فإنه لما تسلطن أمر بتجديد جامع أحمد ابن طولون المذكور ورتب في شد عمارته وعمارة أوقافه الأمير علم الدين أبا موسى سنجر بن عبد الله الصالحي النجمي الدواداري المعروف بالبرنلي وكان من أكابر أمراء الألوف بالديار المصرية وفوض السلطان الملك المنصور لاجين أمر الجامع المذكور وأوقافه إليه فعمره وعمر وقفه وأوقف عليه عدة قرى وقرر فيه دروس الفقه والحديث والتفسير والطب وغير ذلك وجعل من جملة ذلك وقفًا يختص بالديكة التي تكون في سطح الجامع المذكور في مكان مخصوص بها وزعم أن الديكة تعين الموقتين وتوقظ المؤذنين في السحر وضمن ذلك كتاب الوقف فلما قرىء كتاب الوقف على السلطان وما شرطه أعجبه جميعه فلما انتهى إلى ذكر الديكة أنكر السلطان ذلك وقال‏:‏ أبطلوا هذا لئلا يضحك الناس علينا وأمضى ما عدا ذلك من الشروط والجامع المذكور عامر بالأوقاف المذكورة إلى يومنا هذا ولولاه لكان دثر وخرب فإن غالب ما كان أوقفه صاحبه أحمد بن طولون خرب وذهب أثره فجدده لاجين هذا وأوقف عليه هذه الأوقاف الجمة فعمر وبقي إلى الآن‏.‏

انتهى‏.‏

وكان المنصور لاجين فهمًا كريم الأخلاق متواضعًا‏.‏

يحكى أن القاضي شهاب الدين محمود كان يكتب بين يديه فوقع من الحبر على ثيابه فأعلمه السلطان بذلك فنظم في الحال بيتين وهما‏:‏ السريع ثياب مملوكك يا سيدي قد بيضت حالي بتسويدها ماوقع الحبر عليها بلى وقع لي منك بتجديدها فأمر له المنصور بتفصيلتين وخمسمائة درهم فقال الشهاب محمود‏:‏ يا خوند مماليكك الجماعة رفاقي يبقى ذلك في قلوبهم فأمر لكل منهم بمثل ذلك وصارت راتبًا لهم في كل سنة‏.‏

وقال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي في تاريخه‏:‏ حكى لي الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس‏:‏ لما دخل عليه لم يدعه يبوس الأرض وقال‏:‏ أهل العلم منزهون عن هذا وأجلسه عنده وأظنه قال‏:‏ على المقعد ورتبه موقعًا فباشر ذلك أيامًا واستعفى فأعفاه وجعل المعلوم له راتبًا فتناوله إلى أن مات‏.‏

ولما تسلطن مدحه القاضي شهاب الدين محمود بقصيدة أولها‏:‏ البسيط ولما تسلطن الملك المنصور لاجين تفاءل الناس واستبشروا بسلطنته وجاء في تلك السنة غيث عظيم بعدما كان تأخر فقال في ذلك الشيخ علاء الدين الوداعي‏:‏ السريع يا أيها العالم بشراكم بدولة المنصور رب الفخار فالله قد بارك فيها لكم فأمطر الليل وأضحى النهار وكانت مدة سلطنة المنصور لاجين على الديار المصرية سنتين وثلاثة شهور‏.‏

قال الأديب صلاح الدين الصفدي‏:‏ وكان دينًا متقشفًا كثير الصوم قليل الأذى‏.‏

قطع أكثر المكوس وقال‏:‏ إن عشت ما تركت مكسًا واحدًا‏.‏

قلت‏:‏ كان فيه كل الخصال الحسنة لولا توليته مملوكه منكوتمر الأمور ومحبته له وهو السبب في هلاكه حسب ما تقدم‏.‏

وتسلطن من بعده ابن أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون‏:‏ طلب من الكرك وأعيد إلى السلطنة انتهت ترجمة الملك المنصور لاجين‏.‏

رحمه الله تعالى‏.‏

السنة الأولى من سلطنة الملك المنصور لاجين وهي سنة ست وتسعين وستمائة‏.‏

على أن الملك العادل كتبغا حكم منها المحرم وأيامًا من صفر‏.‏

فيها كان خلع الملك العادل كتبغا المنصوري من السلطنة وتوليته نيابة صرخد وسلطنة الملك المنصور لاجين هذا من بعده حسب ما تقدم ذكره‏.‏

وفيها في ذي القعدة مسك الملك المنصور لاجين الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري نائب السلطنة بديار مصروحبسه وولى عوضه مملوكه منكوتمر‏.‏

وفيها ولي قضاء دمشق قاضي القضاة إمام الدين القزويني عوضًا عن القاضي بدر الدين بن جماعة واستمر ابن جماعة المذكور على خطابة جامع دمشق‏.‏

وفيها تولى سلطنة اليمن الملك المؤيد هزبر الدين داود ابن الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول بعد موت أخيه الأشرف‏.‏

وفيها توفي الشيخ الإمام العلامة مفتي المسلمين محيي الدين أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن هبة الله بن طارق بن سالم بن النحاس الحلبي الأسدي الحنفي في ليلة سلخ المحرم ببستانه بالمزة ودفن بتربته بالمزة وحضر جنازته نائب الشام ومن دونه وكان إمامًا مفتنًا في علوم وتولى عدة تداريس ووظائف دينية ووزر بالشام للملك المنصور قلاوون وحسنت سيرته ثم عزل ولازم الأشغال والإقراء وانتفع به عامة أهل دمشق ومات ولم يخلف بعده مثله‏.‏

وفيها توفي الملك الأشرف ممهد الدين عمر ابن الملك المظفر يوسف ابن الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول ملك اليمن وتولى بعده أخوه هزبر الدين داود المقدم ذكره وكانت مدة ملكه دون السنتين‏.‏

وفيها توفي القاضي تاج الدين عبد القادر ابن القاضي عز الدين محمد السنجاري الحنفي قاضي قضاة الحنفية بحلب في يوم الخميس ثامن عشرين شعبان كان إمامًا فقيهًا عالمًا مفتيًا‏.‏

ولي القضاء بعدة بلاد وحمدت سيرته‏.‏

وفيها توفي الأمير عز الدين أزدمر بن عبد الله العلائي في ذي القعدة بدمشق وكان أميرًا كبيرًا معظمًا إلا أنه شرس الأخلاق قليل الفهم رسم له الملك الظاهر بيبرس أنه لا يركب بسيف فبقي أكثر من عشرين سنة لا يركب بسيف وهو أخو الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري‏.‏

وفيها توفي شيخ الحرم وفقيه الحجاز رضي الدين محمد بن أبي بكر عبد الله بن خليل بن إبراهيم القسطلاني المكي المعروف بابن خليل‏.‏

مولده سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وكان فقيهًا عالمًا مفتتًا مفتيًا وله عبادة وصلاح وحسن أخلاق‏.‏

مات بمكة بعد خروج الحاج بشهر ودفن بالمعلاة بالقرب من سفيان الثوري‏.‏

ومن شعره رحمه الله‏:‏ الخفيف أيها النازح المقيم بقلبي في أمان أنى حللت ورحب جمع الله بيننا عن قريب فهو أقصى مناي منك وحسبي الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي القاضي تاج الدين عبد الخالق بن عبد السلام بن سعيد ببعلبك في المحرم وله ثلاث وتسعون سنة‏.‏

وقاضي القضاة عز الدين عمر بن عبد الله بن عمر بن عرض الحنبلي بالقاهرة والحافظ الزاهد جمال الدين أحمد بن محمد بن عبد الله الظاهري بمصر‏.‏

والمحدث ضياء الدين عيسى بن يحيى السبتي بالقاهرة في رجب‏.‏

والزاهد شمس الدين محمد بن حامد المقدسي في ذي الحجة وأبو العباس أحمد بن عبد الكريم في صفر‏.‏

 أمر النيل في هذه السنة

‏:‏ الماء القديم كان قليلًا جدًا مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعًا وثماني عشرة إصبعًا ثم نقص ولم يوف في تلك السنة‏.‏

السنة الثانية من سلطنة الملك المنصور لاجين وهي سنة سبع وتسعين وستمائة‏.‏

فيها مسك الملك المنصور لاجين الأمير بدر الدين بيسري الشمسي وحبسه واحتاط على وجوده وفيها أخذت العساكر المصرية تل حمدون وقلعتها بعد حصار ومرعش وغيرهما وفيها قدم الملك المسعود نجم الدين خضر ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري من بلاد الأشكري إلى مصر فتلقاه السلطان الملك المنصور لاجين في الموكب وأكرمه‏.‏

وطلب الملك المسعود الحج فأذن له بذلك وكان الملك الأشرف خليل بن قلاوون أرسله إلى هناك وسكن الملك المسعود بالقاهرة إلى أن مات بها حسب ما يأتي ذكره وكان خضر هذا من أحسن الناس شكلًا ولما ختنه أبوه قال فيه القاضي محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر يهنىء والده الملك الظاهر ركن الدين بيبرس‏:‏ هنأت بالعيد وما على الهناء أقتصر بل إنها بشارة لها الوجود مفتقر بفرحة قد جمعت ما بين موسى والخضر قد هيأت لوردكم ماء الحياة المنهمر قلت‏:‏ وأحسن من هذا قول من قال في مليح حليق‏:‏ الرمل مرت الموسى على عارضه فكأن الماء بالآس غمر مجمع البحرين أضحى خده إذ تلاقى فيه موسى والخضر وفيها توفي الشيخ الصالح الزاهد بقية المشايخ بدر الدين حسن ابن الشيخ الكبير القدوة العارف نور الدين أبي الحسن علي بن منصور الحريري في يوم السبت عاشر شهر ربيع الآخر بزاويته بقرية بسر من أعمال زرع وكان هو المتعين بعد أبيه في الزاوية وعلى الطائفة الحيريرية المنسوبين إلى والده ومات وقد جاوز الثمانين‏.‏

وفيها توفي قاضي القضاة صدر الدين إبراهيم بن أحمد بن عقبة البصراوي الفقيه الحنفي المدرس أحد أعيان فقهاء الحنفية ولي قضاء حلب ثم عزل ثم أعيد فمات قبل دخوله حلب وكان عالمًا مفتنًا وله اليد الطولى في الجبر والمقابلة والفرائض وغير ذلك‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر الفارسي الأبجي في رمضان وعائشة ابنة المجد عيسى بن الموفق المقدسي في شعبان ولها ست وثمانون سنة‏.‏

وقاضي حماة جمال الدين محمد بن سالم بن واصل في شوال‏.‏

وشهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن النابلسي الحنبلي العابر والشيخ كمال الدين عبد الرحمن بن عبد اللطيف البغدادي بن المكبر في ذي الحجة وله ثمان وتسعون سنة‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وعشر أصابع‏.‏

وكان الوفاء آخر أيام النسيء‏.‏

على مصر السلطان الملك الناصر ناصر الدين أبو المعالي محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون تقدم ذكر مولده في ترجمته الأولى من هذا الكتاب أعيد إلى السلطنة بعد قتل الملك المنصور لاجين فإنه كان لما خلع من الملك بالملك العادل كتبغا المنصوري أقام عند والدته بالدور من قلعة الجبل إلى أن أخرجه الملك المنصور لاجين لما تسلطن إلى الكرك فأقام الملك الناصر بالكرك إلى أن قتل الملك المنصور لاجين حسب ماذكرناه أجمع رأي الأمراء على سلطنته ثانيًا وخرج إليه الطلب من الديار المصرية صبيحة الحادي عشر من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وستمائة وهو ثاني يوم قتل لاجين وسار الطلب إليه فلما قتل طغجي وكرجي في يوم الاثنين رابع عشره استحثوا الأمراء في طلبه وتكرر سفر القصاد له من الديار المصرية إلى الكرك حتى إذا حضر إلى الديار المصرية في ليلة السبت رابع جمادى الأولى من السنة وبات تلك الليلة بالإسطبل السلطاني ودام به إلى أن طلع إلى القلعة في بكرة يوم الاثنين سادس جمادى الأولى المذكور‏.‏

وحضر الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد والقضاة وأعيد إلى السلطنة وجلس على تخت الملك وكان الذي توجه من القاهرة بطلبه الأمير الحاج آل ملك والأمير سنجر الجاولي‏.‏

فلما قدما إلى الكرك كان الملك الناصر بالغور يتصيد فتوجها إليه ودخل آقوش نائب الكرك إلى أم السلطان وبشرها فخافت أن تكون مكيدة من لاجين فتوقفت في المسير فما زال بها حتى أجابت‏.‏

ووصل الأميران إلى الملك الناصر بالغور وقبلا الأرض بين يديه وأعلماه بالخبر فرحب بهما وعاد إلى البلد وتهيأ وأخذ في تجهيز أمره والبريد يترادف باستحثاثه إلى أن قدم القاهرة فخرج الأمراء وجميع الناس قاطبة للقائه وكادت القاهرة ومصر ألا يتأخر بهما أحد فرحًا بقدومه وكان خروجهم في يوم السبت وأظهر الناس لعوده إلى الملك من السرور ما لا يوصف ولا يحد وزينت القاهرة ومصر بأفخر زينة وأبطل الناس معايشهم وضجوا له بالدعاء والشكر لله على عوده إلى الملك وأسمعوا حواشي الملك العادل كتبغا والملك المنصور لاجين من المكروه والاستهزاء ما لا مزيد عليه واستمروا في الفرح والسرور إلى يوم الاثنين وهو يوم جلوسه على تخت الملك‏.‏

وجلس على تخت الملك في هذه المرة الثانية وعمره يومئذ نحو أربع عشرة سنة‏.‏

ثم جدد للملك الناصر العهد وخلع على الأمير سيف الدين سلار بنيابة السلطنة وعلى الأمير حسام الدين لاجين بالأستادارية على عادته واستمر الأمير آقوش الأفرم الصغير بنيابة دمشق على عادته وخلع عليه وسفر بعد أيام‏.‏

وفي معنى سلطنة الملك الناصر محمد يقول الشيخ علاء الدين الوداي الملك الناصر قد أقبلت دولته مشرقة الشمس عاد إلى كرسيه مثلما عاد سليمان إلى الكرسي وفي تاسع جمادى الأولى فرقت الخلع على جميع من له عادة بالخلع من أعيان الدولة‏.‏

وفي ثاني عشره لبس الناس الخلع وركب السلطان الملك الناصر بالخلعة الخليفتية وأبهة السلطنة وشعار الملك ونزل من قلعة الجبل إلى سوق الخيل ثم عاد إلى القلعة وترجل في خدمته جميع الأمراء والأكابر وقبلوا الأرض بين يديه‏.‏

واستقرت سلطنته وتم أمره وكتبت البشائر بذلك إلى الأقطار وسر الناس بعوده إلى الملك سرورًا زائدًا بسائر الممالك‏.‏

وبعد أيام ورد الخبر عن غازان ملك التتار أنه قد عزم على قصد البلاد الشامية لما قدم عليه الأمير قبجق المنصوري نائب الشام ورفقته ثم رأى غازان أن يجهز سلامش بن أباجو من خمسة وعشرين ألفًا من الفرسان إلى بلاد الروم على أنه يأخذ بلاد الروم ويتوجه بعد ذلك بسائر عساكره إلى الشام من جهة بلاد سيس ويجيء غازان من ديار بكر وينزلون على الفرات ويغيرون على البيرة والرحبة وقلعة الروم ويكون اجتماعهم على مدينة حلب فإن التقاهم أحد من العساكر المصرية والشامية التقوه وإلا دخلوا بلاد الشام فاتفق أن سلامش لما توجه من عند قازان ودخل إلى الروم أطمعته نفسه بالملك وملك الروم وخلع طاعة غازان واستخدم الجند وأنفق عليهم وخلع على أكابر الأمراء ببلاد الروم وكانوا أولاد قرمان قد أطاعوه ونزلوا إلى خدمته وهم فوق عشرة آلاف فارس‏.‏

وهذا الخبر أرسله سلامش المذكور إلى مصر وأرسل في ضمن ذلك يطلب من المصريين النجدة والمساعدة على غازان‏.‏

قلت‏:‏ غازان وقازان كلاهما اسم لملك التتار‏.‏

انتهى‏.‏

وكان وصول رسول سلامش بهذا الخبر إلى مصر في شعبان من السنة‏.‏

وأما قازان فإنه وصل إلى بغداد وكانوا متولين بغداد من قبله شكوا إليه من أهل السيب والعربان أنهم ينهبون التجار القادمين من البحر وأنهم قد قطعوا السابلة فسار قازان بنفسه إليهم ونهبهم وأقام بأرض دقوقا مشتيًا‏.‏

ولما بلغه خبر سلامش انثنى عزمه عن قصد الشام وشرع في تجهيز العساكر مع ثلاثة مقدمين ومعهم خمسة وثلاثون ألف فارس‏:‏ منها خمسة عشر مع الأمير سوتاي وعشرة مع هندوجاغان وعشرة مع بولاي وهو المشار إليه من المقدمين مع العساكر وسفرهم إلى الروم لقتال سلامش‏.‏

ثم رحل قازان إلى جهة تبريز ومعه الأمير قبجق المنصوري نائب الشام وبكتمر السلاح دار والألبكي وبزلار هؤلاء هم الذين خرجوا من دمشق مغاضبين للملك المنصور لاجين‏.‏

وسار التتار الذين أرسلهم غازان حتى وصلوا إلى الروم في أواخر شهر رجب والتقوا مع سلامش وكان سلامش قد عصى عليه أهل سيواس وهو يحاصرهم فتركهم سلامش وتجهز وجهز عساكره لملتقى التتار وكان قد جمع فوق ستين ألف فارس‏.‏

فلما قارب التتار فر من عسكر سلامش التتار والروم ولحقوا بولاي مقدم عساكر غازان‏.‏

وأما التركمان فإنهم تركوه وصعدوا إلى الجبال على عادتهم وبقي سلامش في جمع قليل دون خمسمائة فارس فتوجه بهم من سيواس إلى جهة سيس وسار منها فوصل إلى بهسنا في أواخر شهر رجب‏.‏

وكان السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قد برز مرسومه إلى نائب الشام بأن يجرد خمسة أمراء من حمص وخمسة من حماة وخمسة من حلب لتكملة خمسة عشر أميرًا ويبعثهم نجدة إلى سلامش فلما وصل الخبر بقدوم سلامش إلى بهسنا منهزمًا توقف العسكر عن المسير ثم وصل سلامش إلى دمشق‏.‏

وسلامش هذا هو من أولاد عم غازان وهو سلامش بن أباجو بن هولاكو‏.‏

وكان وصوله إلى دمشق في يوم الخميس ثاني عشر شعبان فتلقاه نائب الشام واحتفل لملاقاته احتفالًا عظيمًا وأكرمه وقدم في خدمته نائب بهسنا الأمير بدر الدين بكتاش الزردكاش ثم سار سلامش من دمشق إلى جهة الديار المصرية إلى أن وصلها فأكرمه السلطان غاية الإكرام وأقام بمصر أيامًا قليلة ثم عاد إلى حلب بعد أن اتفق معه أكابر دولة الملك الناصر محمد على أمر يفعلونه إذا قدم غازان إلى البلاد الشامية ثم بعد خروجه جهز السلطان خلفه أربعة آلاف فارس من العسكر المصري نجدة له لقتال التتار وأيضًا كالمقدمة للسلطان وعلى كل ألف فارس أمير مائة ومقدم ألف فارس وهم‏:‏ الأمير جمال الدين آقوش قتال السبع والمبارز أمير شكار والأمير جمال الدين عبد الله والأمير سيف الدين بلبان الحبشي وهو المقدم على الجميع وساروا الجميع إلى بلاد حلب وتهيأ السلطان للسفر وتجهزت أمراؤه وعساكره‏.‏

وخرج من الديار المصرية بأمرائه وعساكره في يوم الخميس سادس عشرين ذي الحجة الموافق لسادس عشرين توت أحد شهور القبط‏.‏

هذا والعساكر الشامية في التهيؤ لقتال التتار وقد دخلهم من الرعب والخوف أمر لا مزيد عليه وسار السلطان بعساكره إلى البلاد الشامية بعد أن تقدمه أيضًا جماعة من أكابر أمراء الديار المصرية غير أولئك كالجاليش على العادة وهم‏:‏ الأمير قطلوبك والأمير سيف الدين كزناي وهو من كبار الأمراء‏:‏ كان حما الملكين الصالح والأشرف أولاد قلاوون وجماعة أمراء أخر ودخلوا هؤلاء الأمراء قبل السلطان إلى الشام بأيام فاطمأن خواطر أهل دمشق بهم‏.‏

وسافر السلطان بالعساكر على مهل وأقام بغزة وعسقلان أيامًا كثيرة ثم دخل إلى دمشق يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وستمائة واحتفل أهل دمشق لدخوله احتفالًا عظيمًا ودخل السلطان بتجمل عظيم زائد عن الوصف حتى لعله زاد على الملوك الذين كانوا قبله ونزل بقلعة دمشق بعد أن أقام بغزة وغيرها نحو الشهرين في الطريق إلى أن ترادفت عليه الأخبار بقرب التتار إلى البلاد الشامية فقدم دمشق وتعين حضوره إليها ليجتمع بعساكره السابقة له وأقام السلطان بدمشق وجهز عساكرها إلى جهة البلاد الحلبية أمامه ثم خرج هو بأمرائه وعساكره بعدهم في يوم الأحد السابع عشر من شهر ربيع الأول من سنة تسع وتسعين المذكورة في وسط النهار وسار من دمشق إلى حمص وابتهل الناس له بالدعاء وعظم خوف الناس وصياحهم وبكاؤهم على الإسلام وأهله‏.‏

ووصل السلطان إلى حمص وأقام لابس السلاح ثلاثة أيام بلياليها إلى أن حصل الملل والضجر وغلت الأسعار بالعسكر وقلت العلوفات‏.‏

وبلغ السلطان أن التتار قد نزلوا بالقرب من سلمية وأنهم يريدون الرجوع إلى بلادهم لما بلغهم من كثرة الجيوش واجتماعهم على قتالهم - وكان هذا الخبر مكيدة من التتار - فركب السلطان بعساكره من حمص بكرة يوم الأربعاء وقت الصبح السابع والعشرين من شهر ربيع الأول وساقوا الخيل إلى أن وصلوا إليهم وهم بالقرب من سلمية بمكان يسمى وادي الخازندار فركب التتار للقائهم وكانوا تهيؤوا لذلك وكان الملتقى في ذلك المكان في الساعة الخامسة من نهار الأربعاء المذكور وتصادما وقد كلت خيول السلطان وعساكره من السوق والتحم القتال بين الفريقين وحملت ميسرة المسلمين عليهم فكسرتهم أقبح كسرة وقتلوا منهم جماعة كثيرة نحو خمسة آلاف أو أكثر ولم يقتل من المسلمين إلا اليسير‏.‏

ثم حملت القلب أيضًا حملة هائلة وصدمت العدو أعظم صدمة وثبت كل من الفريقين ثباتًا عظيمًا ثم حصل تخاذل في عسكر الإسلام بعضهم في بعض - بلاء من الله تعالى - فانهزمت ميمنة السلطان بعد أن كان لاح لهم النصر فلا قوة إلا بالله‏.‏

ولما انهزمت الميمنة انهزم أيضًا من كان وراء السناجق السلطانية من غير قتال وألقى الله تعالى الهزيمة عليهم فانهزم جميع عساكر الإسلام بعد النصر وساق السلطان في طائفة يسيرة من أمرائه ومدبري مملكته إلى نحو بعلبك وتركوا جميع الأثقال ملقاة فبقيت العدد والسلاح والغنائم والأثقال ملأت تلك الأراضي حتى بقيت الرماح في الطرق كأنها القصب لا ينظر إليها أحد ورمى الجند خوذهم عن رؤوسهم وجواشنهم وسلاحهم تخفيفًا عن الخيل لتنجيهم بأنفسهم وقصدوا الجميع دمشق‏.‏

وكان أكثر من وصل إلى دمشق من المنهزمين من طريق بعلبك‏.‏

ولما بلغ أهل دمشق وغيرها كسرة السلطان عظم الضجيج والبكاء وخرجت المخدرات حاسرات لا يعرفن أين يذهبن والأطفال بأيديهن وصار كل واحد في شغل عن صاحبه إلى أن ورد عليهم الخبر أن ملك التتار قازان مسلم وأن غالب جيشه على ملة الإسلام وأنهم لم يتبعوا المنهزمين وبعد انفصال الوقعة لم يقتلوا أحدًا ممن وجدوه وإنما يأخذون سلاحه ومركوبه ويطلقونه فسكن بذلك روع أهل دمشق قليلًا‏.‏

ثم صار من وصل إلى دمشق أخذ أهله وحواصله بحيث الإمكان وتوجه إلى جهة مصر وبقي من بقي بدمشق في خمدة وحيرة لا يدرون ما عاقبة أمرهم فطائفة تغلب عليهم الخوف وطائفة يترجون حقن الدماء وطائفة يترجون أكثر من ذلك من عدل وحسن سيرة واجتمعوا في يوم الأحد بمشهد علي من الجامع الأموي واشتوروا في أمر الخروج إلى ملك التتار غازان وأخذهم أمانًا لأهل البلد فحضر من الفقهاء قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وهو يومئذ خطيب جامع أهل دمشق والشيخ زين الدين الفارقي والشيخ تقي الدين بن تيمية وقاضي قضاة دمشق نجم الدين ابن صصرى والصاحب فخر الدين بن الشيرجي والقاضي عز الدين بن الزكي والشيخ وجيه الدين بن المنجا والشيخ عز الدين بن القلانسي وابن عمه شرف الدين وأمين الدين بن شقير الحراني والشريف زين الدين بن عدنان والصاحب شهاب الدين الحنفي والقاضي شمس الدين بن الحريري والشيخ محمد بن قوام النابلسي وجلال الدين أخو القاضي إمام الدين القزويني - وقد خرج أخوه إمام الدين قبل ذلك مع جماعة جافلًا إلى مصر - وجلال الدين ابن القاضي حسام الدين الحنفي وجماعة كثيرة من العدول والفقهاء والقراء‏.‏

وأما السلطان الملك الناصر وعساكره فإنه سار هو بخواصه بعد الوقعة إلى جهة الكسوة‏.‏

وأما العساكر المصرية والشامية فلا يمكن أن يعبر عن حالهم‏:‏ فإنه كان أكبر الأمراء يرى وهو وحده وقد عجز عن الهرب ليس معه من يقوم بخدمته وهو مسرع في السير خائف متوجه إلى جهة الكسوة لا يلوي على أحد قد دخل قلوبهم الرعب والخوف تشتمهم العامة وتوبخهم بسبب الهزيمة من التتار وكونهم كانوا قبل ذلك يحكمون في الناس ويتعاظمون عليهم وقد صار أحدهم الآن أضعف من الهزيل وأمعنوا العامة في ذلك وهم لا يلتفتون إلى قولهم ولا ينتقمون من أحد منهم‏.‏

قلت‏:‏ وكذا وقع في زماننا هذا في وقعة تيمورلنك وأعظم فإن هؤلاء قاتلوا وكسروا ميمنة التتار إلا أصحابنا فإنهم سلموا البلاد والعباد من غير قتال‏!‏ حسب ما يأتي ذكره في محله من ترجمة السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق‏.‏

انتهى‏.‏

قال‏:‏ وعجز أكثر الأمراء والجند عن التوجه إلى جهة مصر خلف السلطان بسبب ضعف فرسه فصار الجندي يغير زيه حتى يقيم بدمشق خيفة من توبيخ العامة له حتى إن بعضهم حلق شعره وصار بغير دبوقة‏.‏

قال الشيخ قطب الدين اليونيني‏:‏ مع أن الله تعالى لطف بهم لطفًا عظيمًا إذ لم يسق عدوهم خلفهم ولا تبعهم إلا حول المعركة وما قاربها وكان ذلك لطفًا من الله تعالى بهم وبقي الأمر على ذلك إلى آخر يوم الخميس سادس شهر ربيع الآخر فوصل أربعة من التتار ومعهم الشريف القمي وتكلموا مع أهل دمشق فلم ينبرم أمر‏.‏

ثم قدم من الغد آخر ومعه فرمان يعني مرسومًا من غازان بالأمان وقرىء بالمدرسة البادرائية ثم وقع بعد ذلك أمور يطول شرحها من أن قازان أرسل إلى أهل دمشق وعرفهم أنه يحب العدل والإحسان للرعية وإنصاف المظلوم من الظالم وأشياء من هذا النمط فحصل للناس بذلك سكون وطمأنينة‏.‏

ثم دخل الأمير قبجق المنصوري الذي كان نائب دمشق قبل تاريخه وهرب من الملك المنصور لاجين إلى غازان ومعه رفقته الأمير بكتمر السلاح دار وغيره إلى دمشق وكلموا الأمير أرجواش المنصوري خشداشهم نائب قلعة دمشق في تسليمها إلى غازان وقالوا له‏:‏ دم المسلمين في عنقك إن لم تسلمها فأجابهم‏:‏ دم المسلمين في أعناقكم أنتم الذين خرجتم من دمشق وتوجهتم إلى غازان وحسنتم له المجيء إلى دمشق وغيرها ثم وبخهم ولم يسلم قلعة دمشق وتهيأ للقتال والحصار واستمر على حفظ القلعة‏.‏

ثم ترادفت قصاد غازان إلى أرجواش هذا وطال الكلام بينهم في تسليم القلعة فثبته الله تعالى ومنع ذلك بالكلية وملك قازان دمشق وخطب له بها في يوم الجمعة رابع عشر شهر ربيع الآخر‏.‏

وصورة الدعاء لغازان أن قال الخطيب‏:‏ ‏"‏ مولانا السلطان الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين مظفر الدنيا والدين محمود غازان ‏"‏ وصلى الأمير قبجق المنصوري وجماعة من المغل بالمقصورة من جامع دمشق ثم أخذ التتار في نهب قرى دمشق والفساد بها ثم بجبل الصالحية وغيرها وفعلوا تلك الأفعال القبيحة ثم قرروا على البلد تقارير تضاعفت غير مرة وحصل على أهل دمشق الذل والهوان وطال ذلك عليهم وكان متولي الطلب من أهل دمشق الصفي السنجاري وعلاء الدين أستادار قبجق وابنا الشيخ الحريري الحن والبن وعمل الشيخ كمال الدين الزملكاني في ذلك قوله‏:‏ لهفي على جلق يا شرما لقيت من كل علج له في كفره فن بالطم والرم جاؤوا لا عديد لهم فالجن بعضهم والحن والبن وللشيخ عز الدين عبد الغني الجوزي في المعنى‏:‏ بلينا بقوم كالكلاب أخسة علينا بغارات المخاوف قد شنوا هم الجن حقًا ليس في ذاك ريبة ومع ذا فقد والاهم الحن والبن ولابن قاضي شهبة‏:‏ الطويل رمتنا صروف الدهر حقًا بسبعة فما أحذ منا من السبع سالم غلاء وغازان وغزو وغارة وغدر وإغبان وغم ملازم وفي المعنى يقول أيضًا الشيخ علاء الدين الوداي وأجاد‏:‏ الطويل أتى الشام مع غازان شيخ مسلك على يده تاب الورى وتزهدوا فخلوا عن الأموال والأهل جملة فما منهم إلا فقير مجرد ودامت هذه الشدة على أهل دمشق والحصار عمال في كل يوم على قلعة دمشق حتى عجزوا عن أخذها من يد أرجواش المذكور قلت‏:‏ على أن أرجواش كان عنده سلامة باطن إلى الغاية يأتي ذكره بعض أحواله في الوفيات من سنين الملك الناصر محمد بن قلاوون‏.‏

انتهى‏.‏

قال‏:‏ وتم جبي المال وأخذه غازان وسافر من دمشق في يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى بعد أن ولى الأمير قبجق المنصوري نيابة الشام على عادته أولًا وقرر بدمشق جماعة أخر يطول الشرح في ذكرهم‏.‏

وأقام الأمير قطلوشاه مقدم عساكر التتار بعد غازان بدمشق بجماعة كثيرة من التتار لأخذ ما بقي من الأموال ولحصار قلعة دمشق ودام على ذلك حتى سافر من دمشق ببقية التتار في يوم الثلاثاء ثالث عشرين جمادى الأولى وخرج الأمير قبجق نائب الشام لتوديعه ثم عاد يوم الخميس خامس عشرينه وانقطع أمر المغل من دمشق بعد أن قاسى أهلها شدائد وذهبت أموالهم‏.‏